عندما عدت للمنزل لم يكن هناك سوى شيئين فقط .. ضوء شاشة التلفاز و صوت أم كلثوم ! .. أبي .. فضّل أن يجعل كل شئ حوله منصت تماماً مثله ! ، لكن هذه المرة كان الأمر غريباً ! .. لِم أطفأ المصابيح ؟! ، و لِم يرتدى بدلته ؟! .. تقدمت نحوه لكنه لم ينظر إليّ ! .. كل شئ فيه كان مثبتاً ، مأخوذاً .. مسحوراً ! .. جلست بجانبه في هدوء و حذر كأنني أخشى أن أوقظه من سبات عميق و ممتع ! ، و لكن بمجرد أن جلست حتى التفت إليّ و لمحت في وجهه نصف ابتسامة ، ثم قال و هو يشير للتلفاز .. " فكروني " !
سألته عن تلك الأجواء التي قام بتهيئتها من حوله فأجاب أنه ما كان ليفعل ذلك لولا أنه أدرك أن " الست " سوف تغني " فكروني " ، فأسرع إلى دولابه و أخرج بدلته القديمة ، ثم راح يروي لي القصة التي لم أكن أعرفها ! .. أخبرني بأنه عندما كان في مثل عمري كان " حلم حياته " أن يحضر حفل لأم كلثوم ، و لأن قيمة التذكرة كانت بالنسبة إليه باهظة للغاية فقد قرر أن يأخد كل ما تبقى من راتبه ثم باع عدة أشياء من منزله حتى اكتمل ثمنها و ثمن " البدلة " التي حضر بها الحفل ! .. لم يعنه رأي أحد و لم يهتم لكلام أحد .. فالحفل في عينيه ليس مجرد حفل .. و إنما حياة !
لكنه لم يكن يعلم أن الحفل يخبئ له شيئاً آخر ! .. شئ بفضله تكون الحياة ! .. هو نفسه لا يزال حتى الآن يتساءل ، لِم راح ينظر إليها و هي جالسة بجانبه بالرغم من نشوة الغناء التي أسكرته ! .. حقاً لا يعلم ! .. ربما كانت يدها ! .. أجل ، يدها ! .. يدها الجميلة التي كانت تصفّق و ترقص أصابعها فوق حافة الكرسي مع الألحان ! .. نظر نحوها ليجدها - على حد قوله - ملكة ! .. أجمل من أضواء الحفل ! .. هي أيضاً أحست بعينيه فالتفتت إليه و ابتسمت ، لتقول بفرح بدت ذروته في عبرات صغيرة .. " الأغنية حلوة أوي ! " ..
أخبرني أنه لولا ذلك الحفل ما كان ليقابل أمي ! .. و كما ضرب بآراء من حوله عرض الحائط بسبب هوسه بحفلات أم كلثوم ، فقد ألقى بآرائهم أيضاً وراء ظهره بسبب رفضهم لهذا الزواج ! .. أمي بالفعل كانت ملكة ! .. أو بتعبير أدق .. من طبقة " أرستقراطية " و عائلة " غنية " ! .. لكن ما كان يعينه على الاستمرار في إصراره هو إصرارها هي أيضاً على أن تكمل بقية عمرها معه ليصير في حياتها كل شئ ! .. قال لي إن التناقضات هي التي تولّد الحياة ! ، لذا فزواجهما لم يكن النهاية !
كان عليه أن يتحمل سلوكها الأرستقراطي المتحفظ ، و كان عليها أن تتأقلم مع أسلوبه التلقائي المخيف ! .. التناقضات هي التي تولّد الحياة ! .. بالضبط كالبحر ، و ما يحدث فيه من التقاء تيارات مائية مختلفة .. و عكسية ! .. البشر يسمون ذلك صداماً ، لكنهم يكتشفون بعد ذلك أن هذه هي الحياة حيث يتجلى تعريفها بشكل عملي أمام أعينهم !
توقف عن الحديث للحظات و دقائق .. ربما لنصف ساعة ! .. و أنا ، لم أكن أرغب في المغادرة ، فقد كنت أريد مشاركته فترة صمته تلك ! .. بعد انتهاء الأغنية راح يصفّق طويلاً و بقوة .. كأنه بالفعل في حفل مكتظ بالجمهور ! .. ليقول لي و هو ينهض إنه يحس بوجود أمي الراحلة بالفعل - كأنها جالسة بجواره - عند سماع صوت أم كلثوم و بالذات و هي تغني " فكروني " .. ليرتدي بدلة الحفل الأول الذي حضره منذ سنين .. ثم يجلس و كل ما فيه مهيأ لاستقبال الحفل و الحب و الحياة !
فكروني ازاااااى هو انا نسيت
ردحذفاستطيع تخيل الحالة بكل أجوائها الحالمة
جميلة يا نهى
والله يا وفاء كان حلمي برضه أحضر حفلة لأم كلثوم .. الحالة إللي بتعملها بـ " حسها " بتبقى مش طبيعية .. :)
حذفاحساس التدوينة دافي اوي
ردحذفجميلة يا نهى كعادتك
تعيش و تعلّق يا مصطفى .. ربنا يكرمك .. :))
حذفالتناقضات هي التي تولّد الحياة
ردحذفنعم اتفق معك.. التناقضات روح الحياة
موهوبة جدا في السرد يا نهى ..
ولدتِ لتكوني قاصة ^_^
فاستمري
أدينا بنضبش يا ضياء .. يمكن ننفع في يوم من ذوات الأيام ولا حاجة .. :D
حذفجميلة قوي قوي قوي يا نها
ردحذفدمتِ طيبة :)
إنتي إللي أجمل يا هدير .. وحشتيني و وحشتني تعليقاتك .. :)
حذفوقعت أمامي صورة من صور أم كلثوم من بضعة أيام
ردحذفوفكرت في امكانية كتابة عن تلك الحالة .. الإستماع إلى أم كلثوم ... أزعم أنك أستطعتي ذلك بحميمية و إشتياق للماضي
ربطك بين حالة ام كلثوم وحفلاتها وتعارف الاب والأم في غاية الروعة ... وهل يمكننا وصف تلك الحلة الا من خلا هؤلاء الذين عاشوها
معاك حق .. إللي عاشوا الفترة دي بس هما إللي يقدروا يحكوها غير كدة إحنا بننقل عنهم و بس .. :)
حذف