" و كل الناس تعيش و تحلم ، و كلهم يجري و يعرق من أجل تحقيق الأحلام ، و أحياناً يصيب و أحياناً يخيب .. و لكن أغرب المصادفات أنه – غالباً – عندما يتحقق حلمه يسقط ميتاً فجأة و بلا مقدمات ! .. مات و كأن حلمه كان هو الخيط الذي يشده إلى الحياة ، فإذا تحقق الحلم انقطع الخيط و ضاع في الكازوزة يا ولداه !
...
أعرف محامياً شاباً كان يعاني من ضيق ذات اليد ، و كان يحلم برصيد يكفيه شر العمل و السعي على لقمة العيش ، و ابتسمت له الحياة عندما اختارته الصدفة ليكون وكيل أعمال البوليس الدولي في سيناء ، و صار المحامي مليونيراً في ظرف ثلاث سنوات ، و على الفور قام بتصفية مكتب المحاماة الذي كان يديره ، و وزّع الثروة على ولديه ، و أبقى لنفسه ما يكفيه للفسحة و التجول عبر القارات ، و قرر أن يقوم بأولى جولاته في أمريكا اللاتينية ، و حجز التذاكر و استخرج الشيكات السياحية المطلوبة ، و اشترى الملابس المناسبة للشتاء و الصيف .. و قبل الموعد المحدد لبدء الرحلة بيوم ، سقط المحامي الثري ميتاً بدون أسباب !
و لقد حدث نفس الشئ مع نجم مشهور هو أنور وجدي .. و كان أنور وجدي فقيراً في شبابه ، لدرجة أنه اضطر إلى التهام قطعة عجين ليسكت عصافير بطنه ، و كان ينام أحياناً في كواليس المسرح ، و أحياناً يفترش الأرض و يتغطى بنجوم الليل .. و كان حلمه الوحيد أن يصبح يوماً ما مليونيراً ينثر الجنيهات و يوزع الشيكات .. و قيل له يوماً إن الممثل فلان يملك مليون جنيه و يعاني من مرض السرطان ، فقال .. أتمنى أن أحل محله ، أمتلك المليون و أعاني من السرطان ! .. و تحقق حلم أنور وجدي فأصبح ثرياً ألمعياً و مليونيراً بنكيراً ، و مريضاً مرضاً خبيثاً ، حرمه لذة الأكل ، و حرمه نعمة النوم ، ثم ما لبث أن ترك الدنيا كلها و توكل على الذي لا ينام !
و أعرف شاعراً بائساً كان يتخذ من قهوة إيزافتش محلاً مختاراً له خلال النهار و الليل ، و كان يرتدي على مدار العام بدلة تيل بيضاء و حذاء أبيض و قميص معجون بالتراب .. ثم حدث أن التقى الشاعر بثري عربي من دول الخليج ، أنشد في عظيم خصاله و كثير أمواله قصائد و لا قصائد المتنبي في سيف الدولة .. و أصبح الشاعر ثرياً و لا أوناسيس ، أنيقاً و لا عمر الشريف ، و أثرى من وراء قصائده إلى الدرجة التي أتاحت له شراء قصر لنفسه على ضفاف بحيرة جنيف .. و غادر الشاعر مصر و استقر في عاصمة سويسرا .. و في أول يوم دخل فيه قصره ، و جلس في الشرفة ، و مسح بنظره سطح بحيرة جنيف ، و بعد أن انتهى من تدخين سيجارته المفضلة و ارتشاف آخر رشفة من كأسه ، فارق الحياة !
و لذلك يعمر أصحاب الأهداف البعيدة و الأحلام المستحيلة ، و يموت أصحاب الأحلام الصغيرة و الأهداف القصيرة ، و لذلك العبد لله يتمنى عدم تحقيق حلمه إلا بعد مائة عام ... و يبحث عن أحلام بعيدة المدى ، و يتعلق بأمل لا يمكن تحقيقه إلا صباح يوم القيامة ! "
محمود السعدني
من كتاب " وداعاً للطواجن "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.