الجمعة، 30 مارس 2012

طباشير ..


قد يخبرك يومك – أي يوم – أن حياتك لا تزال تحمل لك الكثير من الـ .. مفاجآت ! .. حسناً ، قد لا تكون مفاجآت بقدر ما هي أقدار ، فقرارات .. فحياة مختلفة تماماً عن تلك التي كنت تعيشها أو بالأحرى .. " لم تعشها " ! .. و هو .. استيقظ هذا الصباح كعادته مستعمِلاً كافة حواسه عدا " التذوق " .. كل شئ يفعله من دون تذوق !


اختارت الشمس نافذته من بين كل تلك النوافذ لتبدو في السماء و قد صنعت فجوة خاصة اخترقت هذه الحواجز البيضاء الكثيفة .. لكنه لا يراها ! .. تسربت مياة الدش الساخنة عبر جلده إلى داخله محدِثةً نشوة راحة و دفء في كل خلية .. لكنه لا يزال صامتاً ! .. استقبل القِبلة التي راحت تستقبل هي بدورها نسمات شتائية اختلطت بدفء شمسه .. لكنه لا يتعبد ! .. مجرد آلة يبدو أنها تنتظر الصدأ حتى تتوقف تماماً !


قبل خروجه يلقي نظرة – تحمل في لحظاتها معنى خفي – على سجّانه الجالس فوق كرسيه المتحرك ! .. يحاول تجنب الحديث معه ، و في حديثه يحاول تجنب نطق تلك الكلمة التي تذكره بالرابط الذي يجمعهما ! .. لا يذكر أنه نطق " أبي " و لا مرة ! .. ربما لأنه لم يشعر بها يوماً ! .. لا يأتي النطق من اللسان و إنما من القلب ! .. و هو يشبه لسانه ! .. مجرد آلة تنتظر ذلك السكين حتى تصمت إلى الأبد !


المكان .. المدرسة .. بالتحديد المكتبة حيث لا يحتمل معظمهم البقاء ! .. و هو – كالعادة – يضع أمامه الكتاب ثم يبدأ في حفظ الدرس الذي سوف يلقيه على التلاميذ ! .. يكرر و ينسى ، و يكرر و ينسى ، و يكرر و ينسى .. حتى يحفظ أخيراً ! .. يبدو غير مهتم بتلك الأعين الصغيرة التي تتلصص عليه من خلف زجاج النافذة و من خلف الباب ! .. هو ليس " غير مهتم " بقدر ما " اعتاد بالفعل على ذلك " ! .. حسناً ، ليس تلصصاً فقط ، إنها سخرية أيضاً ! .. سخرية لاذعة تصل إلى حد الإهانة .. إلى حد السب !


لا أحد في الفصل ! .. يبدو أنه نوع جديد من الإهانة قرر هؤلاء الصغار أن يفعلوه ! .. بالرغم من أنه دوماً يفضل الجلوس وحيداً إلا أنه شعر هذه المرة بمتعة العزلة التي يحملها هدوء المكان ! .. يفكر بعد توقف طويل .. " ليس أمراً كافياً أن تختر الشئ ، لابد أن يخترك أيضاً نفس الشئ .. و إلا ستتعرض لتلك اللعنة ! .. ما هي ؟! ، أن تسجن ! .. فإن رغبت في ترك هذا الشئ لن تستطيع .. إرادة انتقامه ستقيدك مثلما فعلت أنت من قبل و قيدته باختيارك له ! " ..


الطباشير .. ذلك الشئ الذي لم يجرؤ على لمسه منذ أكثر من عشر سنوات ! .. بيد مترددة يتناول إصبع صغير ، يتلفت حوله في قلق .. لا أحد ! .. يخبره ذلك الهدوء أنه مستمر لفترة أخرى .. و عليه أن يقتنص تلك الفرصة النادرة كيفما يشاء .. حتى قرر أن يصرخ ! .. يده فوق السبورة متمسكة بالطبشور كأنها تحمل جزء منها .. ثم تبدأ ! .. تجول في الأنحاء ، يمنة و يسرة ، ترتفع فتحلق ثم تنخفض فتركض .. المهم أن تتحرك .. حركة سريعة واسعة تختصر معها كل صحاري الكون في قفزة ! .. تسير بخطوات كثيرة و مختلفة ! .. خطوات منكسرة و أخرى جامدة ! .. خطوات ثابتة و أخرى متفتتة ! .. المهم أن تسير .. و يستمر هذا السير إلى الأبد !


صراخه يمتص الحياة من الطبشور امتصاصاً ! .. تتفجر جزيئاته فيتطاير الغبار من فوق أصابعه و يتهاوى فوق حذائه ! .. يستمر في الصراخ بل و يزيد منه ! .. يعلو و يعلو حتى يختفي ذلك الصياح الذي بعث بمجرد لمسه للطباشير ! .. يحاول أن يصنع ضوضاء تخصه كي تتوقف أذنه عن سماع أي شئ قادم من الأمس أو الغد ! .. و لكن ماذا بعد الضوضاء ؟! ، و ماذا بعد الحياة ؟! .. أنت في الدنيا أشبه بفعل " تمني " يمشي على قدمين ! .. و هو .. تمنى أن يتوقف الزمن حتى تصبح هذه اللحظات سرمدية ! .. لكن الخلود لا مكان له على هذه الأرض !


سرعان ما تنبه لأصوات غريبة ! .. تصفيق ، شهقات إعجاب ، صيحات تشجيع ! .. لم يحس أنهم كانوا يراقبونه .. و لم يحس أيضاً أنه كان يصرخ إبداعاً ، لينفخ في تلك اللوحة السوداء الصماء الكبيرة .. حياة كانت بالأمس مستحيلة ! .. عند عودته للبيت لم يستسلم للتوقف ! .. أخرج كل الطباشير و راح يبث الدفء في تلك الجدران الباردة غير مبالٍ بذلك الصياح الذي كان ينهره و يهينه .. و لا يزال .. و سيستمر ! 

هناك 8 تعليقات:

  1. رائع أسلوبك ..جدا..
    بعض المخاوف تتلبسنا حتى لنظن أننا أضحينا لها قدرا..

    ردحذف
    الردود
    1. اختصرتي إللي عايزة أقوله في جملتك يا فاتحة .. :)

      حذف
  2. كلما قرأت لك يا نهى أشعر بالحكمة العميقة وراء تفاصيل الأشياء و الأشخاص , حرفك يبصر الأشياء و يجسدها لتصبح كتابتك دائما ثلاثية الأبعاد و يصبح كل ابطالك "العاديون" جدا حد الصدق , متاحين جدا للقائهم في الطريق او على محطات الانتظار او العمل , تكتبين للخارج لا للداخل , لكن حتى هذا الخارج يحمل امضاءك خفية لكل من يعتاد قرائتك . دمتِ بخير و ألق !

    ردحذف
    الردود
    1. هما فعلاً يبانوا " عاديين " لكن بالنسبة لي مابشوفهمش كدة خالص .. :)

      ربنا يكرمك يا هدير و تفضلي رافعة من معنوياتي دايماً كدة " حيث إن ثلاثية الأبعاد دي جديدة عليا أوي و مفرحاني بصراحة " .. :D

      حذف
  3. توقفت كثيرا و قرئتها مرارا كي أنهل من فيض الجمال المتجسد بحروفها
    معان عميقة و بحور سحيقة و روعة تفوق الخيال
    انها الدنيا تلك اللوحة السوداء التي تخط عليها ايدينا و تصرخ و هي تداعب طبشورة بيضاء و ترسم خطوطا لا تتوقف حتى ينبعث عذاباتها الحارة عليها فيبث فيها الدفء
    ابداع راق دمتِ مبدعة

    ردحذف
    الردود
    1. الحمد لله .. مكنتش أعرف إنها هتعجبك أوي كدة و يارب تفضل عاجباك كدة على طول يا مصطفى .. ربنا يوفقك يارب .. :)

      حذف
  4. تلك اللحظة الطبشورية من الإنهيار شجناً ملء ماقابلتى فى الحياة .. تكون حين تكتبين كلماتٍ كتلك .. فتُبعث فى كل من يقرأ
    هذا الإنهيار الذى لمس بطلك الإنسان جداً .. هى لذة الحياة
    بهذه اللحظات فقط من العُمر .. تُرسَم لوحة .. تُخلَق فِكرة .. وتولد ثورة .. فتكون الحياة

    أعجبتنى كثيييرا يانُهى :)
    وسعدت لرؤيتك فى ارابيسك رغم إنى عارفة إنك مش عارفانى D: حظ وافِر فى توقيع كتابك القريب جميلتى :)

    ردحذف
    الردود
    1. يا كلامك يا نيللي مش عارفة أقولك إيه بجد .. ربنا يكرمك يارب .. :)

      و إن كان على اللقاء فالجايات كتير إن شاء الله و هشوفك يعني هشوفك في حفل توقيع كتابي .. حاولي يعني مش هتخسري حاجة .. :D

      حذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.