الجمعة، 17 أغسطس 2012

و ما تحت المطر ..


كان عزاء أبي .. ظلمة لم أرها من قبل في الشوارع جعلتني أخشى النظر إلى الظلام .. أخشى النظر فيه ! .. ببساطة كنت أعيد اكتشاف الحياة بعد رحيله ! .. و إعادة الاكتشاف تتطلّب العودة إلى طور الطفولة ! .. كنت أرتجف من البرد بالرغم من جلوسي بينهم و بالرغم من صوت تلاوة القرآن أيضاً ! .. تلاوة القرآن كانت تدفئه !! .. رغم ذلك كان هناك صمت ما ! .. صمت كان يفقدني الإحساس بالجاذبية ! .. أسبح ، أغرق ، أرغب في الهروب إلى حجرتي ، أنكمش فوق سريري .. ثم أتطلّع إلى صورته علّي أشعر ببعض الأمان !

خيال شئ ما يتحرك أمامي ! .. يمتزج بالظلام حيناً ، لكنه يبدو كأنه غريق ! .. لم يكن امتزاجاً .. كان الظلام يبتلعه .. أو بالأحرى يبتلعها ! .. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أراها فيها .. كنت أراها من قبل و هي تسير مع أمها .. توزع الابتسامات على العالم بأسره .. حتى تراب الأرض ! .. تحاول غرس أقدامها بخطواتها القوية ! .. لا شك في أنها تعشق الأشجار إذن ! .. نهضت و اقتربت منها غير عابئ بألم الصقيع أو الخوف من الظلام ! .. راحت تنظر إليّ كأنها تدعوني للاستمرار فيما أود فعله ! .. امتدت يدي نحوها، أحطتها بذراعي و حملتها في رفق ! 

بمجرد أن وضعت رأسها فوق كتفي شعرت بما يشبه " التوازن " ! .. كأنني بالفعل كنت على وشك السقوط و أمسك أحدهم بي قبل حدوث أي شئ ! .. و هي .. هي أيضاً كانت على وشك السقوط ، أو ربما سقطت بالفعل لكنها سقطة كانت في حاجة إليها ! .. سقطة لم تؤذها فسكنت إليها ! .. هل تعلم ؟ .. كان هذا اللقاء أشبه بلقاء الكائنات الهشّة !

سرت بها في الطريق متّجهاً إلى بيتها .. كانت يدها تتحرك فوق صدري ! .. تربت على قلبي ! .. ملت برأسي فوق رأسها في حذر ! .. زفراتها الصغيرة الحارة كانت تتسلل عبر أذني لتملأ جسدي كله بذلك الدفء الغائب ! .. أنفاسها كانت تطمئنني ! .. تشعرني بذلك الأمان الذي أخذه أبي معه ! .. رحت أضمها بقوة ! .. عناقي لها كان خانقاً ، لكنها لم تحاول دفعي عنها أو حتى الإعلان عن ضيقها بتأوهات ضعيفة ! .. لقد صارت جزء من جسدي .. و هي صارت تعلم ذلك !

أيقظني صوت الرعد من تلك الغفوة ! .. وجدت حالي واقفاً في منتصف الطريق ! .. الظلام هذه المرة أكثر اتساعاً و أكثر هيمنة حتى أنه لم يكن باستطاعتي رؤية أي شئ إلا عينيها ! .. كانت تنظر لي مليّاً و ترسل لي في صمت أحاديث لم أقدر على فهمها .. لكنني على إثرها توقفت عن البكاء ! .. عادت فوضعت رأسها فوق كتفي و عدت أنا لأكمل طريقي ! .. عند وصولي لبيتها كانت نائمة .. لكن يدها لم تتوقف فوق قلبي ! .. حملها والدها في لهفة .. كان فمه يتحرك و لم أكن أسمع شيئاً ! ، و لذلك فقد قاطعته معلناً ذهابي ! .. قبل رحيلي منحتني نظرة أخرى .. لم أفهمها أيضاً ، و لكنني ابتسمت بسببها ! .. سرت في الطريق ، تحت المطر و كل شئ كما هو .. عدا أنا !! .. لم أعد أرتجف من البرد ! .. و لم أعد أخشى الظلام !

هناك 4 تعليقات:

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.