مِسبحته في يده ، بيد أن أنامله قد توقّفت عن العمل ! .. يسكن فوق كُرسيه الذي يبدو بين الأثاث الريفيّ البسيط كالعرش ! .. نظّارته الطبيّة مُعلّقة بين أزرار جِلبابه الأبيض ، بينما يبتسم على غير عادته كلّما رأى إحدى قِطط الدار و هي تتسلّل إلى المطبخ ! .. يتأمّلهم و قد اجتمعوا في حُجرته للمرّة الأولى منذ سنوات ! .. عشرة أبناء .. تخلّوا هذه المرّة عن مُشاحناتهم و صلابة رؤوسهم و راحوا يسخرون من هذا العالم في تحدٍّ ! .. ضحكاتهم مُزعجة ، إلّا أنه لم ينهرهم كعادته ، الحقيقة أنّه كان سعيداً بذلك للغاية .. سعيداً إلى حدّ الخوف !
لِمَ لا يصدّق المرء إحساسه إلّا عند دنو الأَجلّ ؟! .. لِمَ يتجاهل صوت قلبه طوال حياته و لا ينصت إليه إلّا عندما يحدّثه باقتراب ساعته ؟! ، و لكن .. عشرة أبناء ليس بالأمر الهيّن فكيف كان له أن ينصت لغيرهم إذن ؟! .. ربما لهذا السبب صار يقدّس الصمت كتقديسه للصلوات الخمس ! .. صار يتخيّر أوقات خمولهم و نومهم ليشعر بحُرّيّته ، حيث لا وجود لشكوى أو رجاء أو أسف أو تذمُّر .. حيث لا وجود لمسؤوليّة واحدة ، لا عشر مسؤوليّات !
التقط تلك النظرة الصمّاء منها ! .. كلّما يتأمّل صورتها يتأكّد أنّها أوفر منه حظّاً ، فهي لم تشهد زواج جميع أولادها فقط و إنّما لم تعش مع مرضها الأخير سوى أسبوع واحد ! .. تُرى هل تمكّنت من إدراك حقيقة الألم في هذا الوقت القصير ؟! .. لا يظن ! .. فهي على الأقل لم تمُت وحيدة ! .. يذكر أن انتظارها لهم لم يطل ، فسرعان ما ازدحمت بهم الحُجرة في محاولةٍ منهم لإبقائها مُدّة أطول ! .. أخبرتهم أن زفراتهم تدفئها ، تخمد آلام جسدها فتساعدها على النوم ، لذا فعليهم أن يأتوا إليها كلّ ليلة .. فهي لا تحتاج سوى إلى دقائق ليسكن كلّ شئ حتى صباح اليوم التالي !! .. الليلة الأولى ، الثانية ، الثالثة .. و في الليلة السابعة هدأت تماماً و لم تعد بحاجةٍ إليهم !
الحقائق لا تختبئ ، فهي تحيط بنا أينما كُنّا إلى أن يأتي الوقت المناسب لرؤيتها ، شرط أن يكون لدينا الاستعداد - و ربما الشوق - لمواجهتها ! .. و هو لم يكن يعلم أنه يخفي كلّ هذا الذُعر في داخله ! .. إنه الآن رُغماً عنه يمارس الخوف بأثر رجعيّ ، فهو على يقين بأن كلّ شئ سيحدث بلا مُقدّمات ! .. إن الأمر بالنسبة إليه أشبه بوجود جهاز يضخّ ( الأُكسجين ) في صدره ليساعده على التنفُّس .. ليساعده على البقاء ! .. لذا فعليه ألّا يكون وحده حتى و إن كان بصُحبة مخلوق ليس في مثل قوّته التي كانت .. و ربما لن يكون أبداً ! .. عليه أن يفعل مثلما فعلت ، أن يستبقِ أحدهم معه حتى صباح اليوم التالي .. في انتظار ليلة ستحرّره إلى الأبد !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.