الخميس، 27 أكتوبر 2011

عندما توقف عن التحليق !


كان رجوعها بطعم العودة إلى الحياة بعد سكون دام لسنوات طويلة ! .. لم يتغير الشارع كثيراً ، على الأقل في عينيها .. لا يزال ذلك المخبز يعج بالناس في الداخل و الخارج ، لا يزال هناك صبية يحطمون ركود اللحظات بضجيجهم و لعبهم الكرة رغم اقتحام تلك الأماكن المخصصة للعب " البلاي ستيشن " ! ، لا تزال " زينة رمضان " ترفرف فرحاً بنسمات الخريف – كما اعتادت هي أن تشهد في الماضي – قبل أن تتبعثر تحت وطأة أمطار الشتاء القادم ! .. لا تزال تلك الرائحة الخاصة التي يستنشقها جسدها كله .. مزيج من نكهات البيوت يحمل سكينة و دفء .. و ترقب أيضاً !


وحده بيتها الذي توقف عنده الزمن ! .. بمجرد أن ضمها بين أركانه أحست أنها لم تغب إلا يوم أو بعض يوم و ليس عقد كامل ! .. عشر سنوات كانت كافية لتغيير ذلك الكون الذي يحيط بها و ليس البشر فقط ! .. رغم دائرة الغربة القاسية التي لا تكف عن الحركة ، لكنها كانت قادرة على سرقة أوقات للتذكر و الفضول ! .. كانت تتابع أخبار الشارع من جارتها و تتلقاها في شيء من البرود و ربما الرفض ! .. كانت تحس دوماً – رغم نضجها – أنه عند عودتها ستجد كل شيء كما تركته !


كان أول ما فعلته بمجرد دخولها البيت أن أسرعت إلى شرفتها و راحت تختلس النظرات إلى نافذته كما تعودت ! .. إنها المرة الأولى التي تجدها مغلقة ، فطيلة سنوات مراقبتها له لا تذكر أبداً أنها رأت النافذة مغلقة في أي وقت ، في كل الفصول .. حتى عندما يكون بالخارج ! .. تعلم أن الأمر صار مختلفاً الآن خاصةً بعد وفاة أمه و زواج شقيقته .. كأن كل شيء توقف و صار باهتاً كاسمه الذي اعتاد أن يكتبه بالطباشير أسفل نافذة حجرته ! .. راحت تتأمل في شرود تلك النافذة السحرية التي كانت تراها كنجم آخر و مختلف يسطع ليلاً و نهاراً !


النجوم كانت تغريها .. و هو أيضاً ! .. أهي لهفة المراهقة لتذوق الحب حتى و إن كان مخلوق وهمي لا يعيش سوى في خيال بعض السذج ! .. الآن فقط تدرك أن ما كانت تعيشه لم يكن سوى إعجاب و لهفة طفولية حمقاء ، لكنها بالرغم من ذلك لا تستطيع كبح جماح فضولها ! .. تريد أن تراه و أكثر من ذلك .. أن تعود لتراقبه من خلف ستار الشرفة .. أن ترجع لتتمنى أن يلتفت إلى نافذتها و شرفتها علّه ينتبه لها و لو للحظات ! .. أن تحمل لها النسمات صوته الغامض المميز و هو يتحدث لصديقه في النافذة المقابلة له .. أن تستمتع بمشاهدته و هو يداعب طيور السماء بنداءاته الخاصة فيبدو كأنه يعانقها و يرغب في التحليق معها ! .. تنهدت و السعادة لا تزال تملأ رئتيها بعد شعورها أنها تعود رويداً رويداً إلى الماضي !


لم تمكث في البيت طويلاً ، لكنها أسرعت إلى ذلك المتجر الذي لمحته و السيارة في طريقها إلى العودة .. كانت ألوان و نغمات طيور الزينة داخل الأقفاص تحلق من دون أجنحة ، فعزمت على جلب مغرد صغير ليحطم سكون بيتها الموحش ! .. عند دخولها أحست للوهلة الأولى أنها تحلم و لكن ما لبثت أن انتبهت لشرودها .. كان هو ! .. يجلس في جمود كأنه تمثال شمعي لا ينقصه سوى الحياة .. عندما اقتربت أكثر أدركت أنه منهمكاً في قراءة ذلك الكتاب .. أو هكذا يبدو ! .. ألقت التحية فانتبه لها و ردها وقوفاً .. سألها عما تريده بالضبط فلم تعلم بمَ تجيب أو كيف ؟! .. كلما أدركت أنها تطيل النظر في وجهه تعود فتتظاهر بتأمل الطيور من حولها ! 


لم تعد تفكر في الطير الذي تريده .. صارت تفكر في ذلك النجم الواقف أمامها ! .. راح يتحدث إليها و يخبرها بنوع كل طائر و ما يميزه لكنها لم تكن تسمع شيئاً .. كانت تتأمل بأذنيها صوته الذي راح يعلن عن حال صاحبه .. في الحقيقة لم يعد نجماً ! .. انطفأ و لم يبق سوى غموضه و ضياعه في ظلمة فضاء واسع ! .. لم تهتم بذلك كله فهو لا يزال في عينيها براقاً ، رغم يقينها بأنه لا يذكرها و ربما لا يعرفها أصلاً ! .. أخبرته بأنها ستعود في الغد بعدما تكون قد قررت أي الطيور ستشتري .. و قبل أن تغادر أوقفها قائلاً : " حمد لله ع السلامة " !


لم يعط لها الفرصة حتى لتندهش فأخذ يعتذر لها على ترحيبه بعودتها الذي جاء متأخراً ، و لكنه – على حد قوله – كان في حاجة لبعض الوقت كي يتأكد أنها هي .. فعشر سنوات ليست بالأمر الهين ! .. ودت لو كان قد غلف كلماته بابتسامة قصيرة ، لكنه لم يفعل أو كما تشعر هي .. لم يعد قادر على ذلك ! .. غادرته و في داخلها شعور خاص ، كل ما تستطيع تفسيره منه هو الفرح ! .. شعرت بأن الكون يتسع أمامها رغم ضيق الشوارع ! .. كأن السماء تتداخل بين البنايات بنجومها و نورها الليلي الرباني ! .. يتردد غناء الكروان في أذنيها بأصداء حرة ! .. تشاركها أضواء المصابيح المختلفة سعادتها من وراء الشرفات و النوافذ ! ، حتى لمحته و هو عائد فاستقرت في شرفتها و قد ثبتت ناظريها على نافذته .. كان الوقت يمر بها في بطء قاتل و لم تشهد حتى و لو شبح ضوء في غرفته .. كانت تتأمل النافذة و السماء و النجوم ، لكنها لم تلاحظ لمعان نظارته من خلف ستار شرفته .. حيث كان واقفاً ليراقبها هو هذه المرة ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.