كان البحر بالنسبة لها هو أقرب الحلول .. ودت لو استبدلته بصحراء واسعة ، لكن الأميال طويلة و البشر صاروا في كل مكان ! .. أخرجت محفظتها من الحقيبة و راحت تفتش فيها للمرة الأخيرة .. ما تملكه لا يكفي ! .. عليها أن تقطع نصف المسافة سيراً على قدميها حتى تصل للبيت ! .. أهو الفقر الذي كان يتراءى لها بين يوم و آخر ؟! .. كلا ، لن تحاول أن تخدع نفسها لسنوات أخرى قادمة ، فهي تعلم أنها بالفعل فقيرة منذ قدومها إلى تلك الدنيا تقريباً ! .. لم تدرك أباها إلا في الصور .. أليس اليُتم فقر ؟! .. لم تهنأ بدفء أمها بسبب مرضها و إقامتها شبه الدائمة في المشفى .. أليس ذلك الشتاء فقر ؟! .. لم تكمل تعليمها كأقاربها و جيرانها .. أليس الجهل فقر ؟! .. لم يكن لها حق اختيار الأعمال التي قامت بها و الوظائف التي شغلتها .. أليست محاولة الاستمرار فقر ؟! .. حتى هو .. لم توافق على الارتباط به حباً أو اقتناعاً و إنما يأساً ! .. كأنها تبحث عن أي منفذ للهروب من تلك الوحدة التي تلتصق بها دوماً ! ، رغم ذلك فهي تعلم جيداً أنه لا يضيف لها أي جديد ! .. إنها تحتفظ به كشبح لا كرجل ! .. أليس ذلك الخوف فقر ؟!
باتت تفضل الصمت في كل الأحوال .. في جميع الأوقات .. في سائر الأماكن ، كقطار تجمد سيراً فوق خطه الطويل و لا يملك سوى أن ينتظر أي " تحويلة " ! .. انتبهت إلى صوت ضحكة عالية لتجدها لطفل يقفز على مسافة أمامها فوق الصخور .. همّت بأن تناديه محذرةً إياه قبل أن يقع فتصطدم رأسه بإحداها أو يختل توازنه فيلتهمه الموج .. لكنها لم تفعل ! .. استوقفها صوت آخر يخبرها بأنه يلهو منذ ساعات و لم يحدث له شيء .. نظرت بجانبها فوجدته يتكيء بيديه فوق عصاه .. كان عجوزاً ، و لكن بقدر ما يحمل وجهه تفاصيل زمن مضى بقدر ما كان يتمتع بجمال صامد بين تلك الخطوط ! .. راح يكمل حديثه إليها و هو لا يزال يراقب الصغير .. أخبرها بأنه يقفز منذ وقت طويل ، لكنها لم تنتبه له إلا في تلك اللحظات لذا فليس من حقها أن تعكر صفوه و عليها أن تتركه ليفرح بطريقته الخاصة !
أخبرته بأنها تخشى سقوطه فوق الصخور أو في البحر ، لكنه عاد ليقول لها مبتسماً أن تدعه يفرح بطريقته في حرية ! .. أدارت وجهها و راحت تراقبه في صمت بعينين تموجان بالقلق و الترقب ليعود هو فيخبرها بألا تثقل على حالها خوف لا مبرر له فوق المخاوف التي تعانيها ! .. نظرت له في تساؤل فقال إن قراءة الوجوه ليست بالأمر العسير ! .. تخلت عن صمتها لتقول في سخرية إن تلك الحياة لا تستحق سوى الخوف و إنه على المرء أن يتعلم فنون المراوغة و الصراع كي يقدر على أن يحيا .. عاد ليقول إن الخوف الذي تتحدث عنه يوقف الحياة أصلاً و إن تلك الفنون التي ذكرتها تخص فقط أولئك الذين يهتمون بالدنيا و عطاياها رغم أنها لا تمنح شيئاً !
صمت للحظات ثم توجه ببصره إلى الأفق حيث تمتزج زرقة السماء بزرقة البحر و قال إن الإله وحده هو الذي يعطي و الذي يمنح .. تنهّدت في استسلام و همهمت إلى نفسها بأنه لابد أن يكون درويشاً متصوفاً ، زهد كل ما في الحياة بعد ذلك العمر الطويل الحافل .. لكنه قاطع تلك الأفكار التي كانت تهمس بها ليخبرها – بابتسامته التي لم تتبدل – بأن الجميع يتصوفون عند الحاجة ! .. لا يدركون أنهم يسيرون فوق دائرة .. يبدأون بضعف ، و يمرون على هم ، و ينتهون في عجز .. و في كل الأحوال لا تتدخل الدنيا لحمايتهم ، فهي في النهاية مخلوق يسير على نفس الدائرة ! .. التفت إليها و أكمل قائلاً بأنه من الأفضل أن يبقى المرء متذكراً ضعفه فيكون متصوفاً طول الوقت ، بدلاً من ذلك النسيان الذي يقذف به في اليأس !
سألها إن كانت قد حاولت ممارسة ذلك الضعف من قبل ، لكنها لم تفهم على الأقل في البداية .. و سرعان ما انفجرت دموعها من دون إرادتها ! .. شعرت حينها فقط أنها أدركت شيئاً رغم عجزها عن تفسيره ! .. تذكرت أنها لم تبكِ بهذه الدموع من قبل و التي كانت تحمل معها مذاقاً خاصاً ! .. نهضت كالهاربة خجلاً مما أضحت عليه من بكاء غريب لا تعلم متى سينقطع ؟! .. قبل أن تنصرف سمعته و هو يخبرها بأنها نسيت محفظتها خارج الحقيبة ، فاستدارت و أخذتها من يده في سرعة و لم تحاول حتى النظر في وجهه .. ثم راحت تخطو فوق الصخور قفزاً كأن أحدهم يطاردها !
عند وصولها للطريق أخذت تتأمل المواصلات المختلفة ، صحيح أنها ستقطع نصف المسافة سيراً على الأقدام حتى تصل للبيت ، و لكنها تذكر أن ما تملكه كافياً لركوب الحافلة التي ستقطع لها النصف الآخر .. قررت أن تلقي نظرة داخل المحفظة كي تتأكد فإذا بها مليئة بالنقود عالية القيمة ! .. استدارت فلم تجده ! .. عادت لتبحث عنه و قد توقفت عن سماع كل ما في الكون عدا نبضات قلبها المترقب ، و لكن لم يكن له أثر ! .. لم يكن هناك سوى ذلك الصغير الذي لم يتوقف عن اللعب و القفز بعد ! .. لم تبقى صامتة طويلاً فأخرجت تلك الحلوى من حقيبتها لتعطيها له بيد و بيدها الأخرى كانت تحاول أن تمسح تلك الدموع التي لم تتوقف بعد ! .. أخذها منها فمنحها ابتسامة حلوة و راحت هي تشق الطرقات بخطوات لا تعاني من جاذبية الأرض القاسية .. كانت تطير ! .. تذكرت ما أخبرتها به أمها عن أولئك الأطياف الذين يسكنون بقاع الأرض فكانت ترد عليها قائلةً إنهم كالملائكة .. نؤمن بوجودهم لكننا لا نراهم .. إلا أنها في تلك اللحظة كانت تردد .. " رأيت استثنائاً .. رأيت ملاكاً " !
روعة اعجبتني جدا .
ردحذف