الأحد، 30 سبتمبر 2012

بَشَر للبيع !


" هي : لقد بدأت تصبح مُملاً جداً ، ماذا تريد مني ؟ ماذا تأخذه عليّ ؟

هو : نفس ما تفخرين به ، أنك مومس .

هي : و لكنك أنت الآخر مومس ، و كل هؤلاء الحليقون المُبتسمون المُتحدّثون في همسٍ مؤدّب خافت ، كل من ترى من الرجال و النساء حولك مومسات و مومسون .

هو : أنا مومس ؟

هي : بالتأكيد مومس ، ماذا تفعل ؟ . آه . نسيت . قلت أنك كاتب ، و قطعاً تعمل في مؤسسة ، أو تعيش في مجتمع يعولك و يدفع لك أجرك . هل تقول الحقيقة ، كل ما تعتقد أنه الحقيقة لهذا المجتمع ، أم تقول أشياء و تخفي أشياء ؟ أليس هذا مومسة ؟ المحامي الذي يترافع عن إنسان يعلم تماماً أنه سارق أو قاتل لينال أجره و أتعابه ، ماذا تسمي هذا ؟ السياسي الذي يعرف أنه يبيع بلده أو يغمض عيناً عن مصالحها ، ماذا تسميه ؟ القاضي ، التاجر ، الزوجة التي لا تطيق زوجها و تتأوّه حُباً حين يلمسها ، الابن الذي يكره أباه و يُحييه كل صباح : هاللو .. دادي ! .. ماذا تسمي هذا كله ؟ .. ماذا تسمي ما يقوم به العلماء الذين يخترعون قنابل الفناء ، و السياسيون الذين يخوضون الحروب ، و المُثقّفون و الكُتاب الذين يعرفون الحقيقة و يخافون الجهر بها ؟ . أليس كل هذا مومسة ، كُلكم ، كُلّهن ، بغايا ، و بأجر فاحش مدفوع ، و لكني أنا الوحيدة المصلوبة بينكم ، أنا الوحيدة التي بخطيئة ، و أنتم فقط قُذاف الأحجار .


هو : كل هذا كذب على النفس ، هذا صحيح ، و لكن بيع الجسد شئ آخر .

هي : إنه أخف أنواعها ، فما دمنا كلنا مومسون و مومسات ، فأحسننا هو أقلّنا ضرراً ، و أنا على الأقل لا أضر إلا نفسي ، إذا سميت ما أفعله بنفسي ضرراً . أما المومس الذي يخدع الملايين ، و يفتك بقيم الملايين ، و يسرق الملايين ، و يقتل الملايين ..


( فترة صمت .. ثم تبدأ ببطء و صوت منخفض يظل يعلو )

...

هي : لا يهمني كلامك أبداً ، أنا قررت حياتي . أنا مومس و لكني نظيفة ، فأنا لا أقول أنا مدام فلان أو صديقة علان أو أرملة تلتان ، أنا نظيفة أقولها لك و للجميع : أنا مومس . و بقولي هذا على الملأ أصبح أنظف منكم جميعاً . فأنا لا أكذب عليكم و لا على نفسي . أنتم الكذّابون و الكذب أخدش للشرف من النفاق . إنه المومسة فعلاً ، و ما أفعله مومسة و لكني نظيفة .

هو : لا يا سيدتي .. لا تخدعي نفسك فأنت تفخرين أنك الوحيدة التي لا تخدعين نفسك . قولي أنا مومس و أن بيع الجسد أحقر شئ يرتكبه بشر ، و لكني أعرف لماذا أنا أفعله . ولا تهربي خلف رداء العموميات . قولي لنفسك إنك ستخسرين نفسك و إنك بحاجة إلى من يعالجك أو يأخذ بيدك .

( ... صوتها تحوّل إلى صراخ . تقف فجأة و بعصبية شديدة تلم حقائبها و كتابها و أوراقها و تصرخ بأعلى صوتها )

هي : أنا نظيفة .. نظيفة .. بل أنا قذرة .. قذرة جداً .. و لكني أقولها .. هأنذا أصرخ بها .. أنا نظيفة جداً لأني قذرة جداً جداً . أنا أنظف قذرة .. أنظف منكم كلّكم . ( بول شيت ) عليكم جميعاً .

القاعة يخيّم عليها سكون مشلول تام . الذهول لبرهة طويلة على الوجوه . دبدبة خطواتها المسرعة إلى الخارج هي وحدها المسموعة . بخفوت شديد يبدأ شئ و كأنه الهمس ، يظل يرتفع و يرتفع و تنفك دهشته الشديدة ، و تعود الوجوه تبتسم بل و تضحك ، و تمتلئ القاعة بنفس الضجة التي كانت عليها ، و كأن شيئاً ما كان .

يصنع من كفيه كأساً يملؤها بذقنه و يحدق إلى أبعد نقطة في الكون و يقول :

هو : متى يا إلهي تعطي بعض الرجال شجاعة بعض البغايا . "


يوسف إدريس
من رواية " نيويورك 80 " 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.