الخميس، 30 يونيو 2011

قطار .. على باب الله !


يشق صوته حالة السكون المسيطرة على لحظاتهم .. يفزعهم ، يخرسهم ، و ربما يزعجهم ! .. في البداية كانوا يظنون بأنه مجرد متسول ، و لكن مع قدومه في نفس الموعد تقريباً و إصغائهم لندائه اكتشفوا حقيقته .. فطريقته قد تبدو غريبة في البحث عن " أي شغلانة " على حد قوله و لكنها تظل الوسيلة الأفضل لجذب الانتباه .. فقد يوكله أحدهم مهمة تنظيف أسطح بعض العمارات أو المساعدة في نقل بعض أدوات البناء أو حتى لمجرد الحراسة و لو ليوم واحد ! .. يعرفون عنه ما يجب أن يعرفونه فقط كي تطمئن نفوسهم نحوه و لكنه لا يزال يخفي الكثير عنهم .. و ربما يخدعهم بمظهره الزائف !


يواري شعيراته الفضية أسفل المنديل الذي غطى به رأسه كي لا تعلن عن عجزه .. يمتص شهيقاً موجعاً يتحدى به ذلك الشيء الخفي الذي يشعر به و كأنه جاثم على قلبه فقط كي يطلق ندائه بصوت جهوري .. يسير محاولاً الاحتفاظ في ألم باستقامة ظهره و رأسه المرفوعة كجواد مريض بقيد مشدود ! .. يتجه ببصره إلى الطوابق العليا فيبدو وجهه في عناق خانق مع شمس الظهيرة .. إنها لا تعدو كونها محاولة استعراض قوة لم تعد تمت لجسده بصلة و هو على وشك أن يتخطى عقده السادس ! 


يومه الشاق انتهى مبكراً هذه المرة فقرر أن يذهب إليها و ينتظرها إلى أن تنهي عملها هي الأخرى .. يسير و قد نفض عن نفسه ثوب القوة المصطنعة ! .. أزاح المنديل من على رأسه فاستقبل الهواء من حوله كنسمات شتائية استمتع ببرودتها .. استسلم لتلك الصخرة الراقدة فوق قلبه و التي اعتاد على وجودها منذ سنوات طويلة .. ترك ظهره حر من دون قيد فأعلن عن ذلك العجز بانحناءه البسيط ! .. وحدها رأسه التي بقت مرفوعة فبدت في عينيه نظرات متابعة و تأمل و وداع لقرص الشمس الأحمر و هو يتهادي من خلف كل هذه الدنيا المبعثرة أمامه ! 


ذكره صوت القطار بحلمه أيام كان صغيراً .. كان القطار في عينيه هو ذلك الشيء المسحور الذي سوف يحقق له ما يريد ! .. كان ينتظره حتى يبدأ في التحرك ثم يأخذ في السير بجانبه .. كلما أسرعت عجلاته القوية أسرع هو في خطواته .. يسرع و يسرع ، يعدو و يعدو إلى أن يسبقه القطار و يغمره بتلك العاصفة الترابية التي يخلفها وراءه ! .. وقتها لم يكن يعلم سر تعلقه بذلك الشيء و تلك الهالة التي تحيط بهذه القطعة الحديدية الضخمة .. إلى أن تخطى سن العاشرة ! .. فضل حينها أن يتابعه من بعيد بجسد ساكن و عقل يبحر في أفكار شتى ! .. تأمله فسر له تصرفاته الانفعالية غير المفهومة و ربما أوحى له بهدفه ! .. كان يرغب في أن تكبر دنياه .. تزداد من حوله بتفاصيلها و بشرها و ألوانها .. لا لم تكن حالة أشبه بالملل بقدر ما كانت حاجة أقرب إلى الثورة !


جلس على الرصيف المقابل للعقار الذي تعمل فيه ينتظر خروجها .. تحيط به تلك الأضواء التي تبدو و كأنها تتمايل من خلف النوافذ الزجاجية في حالة هي الأقرب للإغواء ! .. عطور الأزهار الخيالية التي تسكن وراءه في الحديقة .. همسات الأغصان التي تصل إلى أذنيه كتسابيح خاصة لا يسعه سوى أن يرددها معها ! .. لم يخرجه من هذا العالم سوى تلك السيارة التي وقفت أمامه ليمد له صاحبها يده و هي تحمل ورقة مالية واحدة و لكنها عالية القيمة .. نظر له في صمت فهو لم يكن يعلم ماذا يعني ذلك ؟! .. عندما تبين الأمر ابتسم و هو يربت على صدره بكفه في إشارة لرفضه المغلف بالرضا و الشكر ! .. 


تطل من خلف البوابة الضخمة بعبائتها السوداء و حجابها الحريري البالي .. جاءته فرحة و هي تحمل في يدها " كيس " أسود صغير .. أخبرته أنه لن يأكل شيء مما تحمله – و هي أيضاً – إلا عندما يعودان إلى دارهما .. يسيران معاً دون أن يشعران بطاحونة الوقت البطيئة و خط طريقهما الطويل و آلام العجز القاسية إلى أن وصلا .. شيء أشبه ببيت قديم .. مصنوع من الطين .. شبه مكشوف .. ليس به سوى ذلك الغطاء الخشن الذي قد تلجأ إليه بعض الكلاب و القطط الضالة للنوم أو الدفء .. أحاديثهما لا تنتهي حتى و هما يأكلان .. يلقيان ببعض الفتات بالخارج كي تهنأ به تلك الحيوانات الهزيلة .. يتحدث و يبتسم و ربما يضحك لكنه لا يستطيع أن ينكر أنه خائف فهو يعلم بما سيحدث .. و قد حدث ! .. سرعان ما وجد الدماء تنفجر من فمها بغزارة بلون صارخ يقذف في نفسه الرعب .. تسيل حتى رقبتها فتختفي في ملابسها السوداء .. دوماً ما يقترن ليلهما أيضاً بالخوف و استدعاء الألم ! .. دائرة شقاء لا تنتهي طالما بقى في قلبيهما خفقان حتى و إن كان ضعيف ! .. يضع كفه على صدرها في رفق كعادته ثم يهمهم بتلك الآيات البسيطة ككل ما يعرفه و احتفظ به داخل قلبه .. علت ابتسامته بعدما توقفت الدماء و راحت هي تغمض عينيها في سلام .. رقد بجانبها و قد أمسك بيدها محاولاً طمأنة نفسه بدفء ضئيل لا يزال يسري في عروقها ! .. إنه لا يخاف الموت و لا يخشى الوحدة فإيمانه يحدثه بأنهما مثلما ولدا معاً .. سيرحلان أيضاً سوياً !

هناك تعليق واحد:

  1. الأسلوب الذي بدأ به النص غامض ومبدع ومثير،خصوصا عندما قلت"يشق صوته حالة السكون المسيطرة على لحظاتهم .. يفزعهم ، يخرسهم ، و ربما يزعجهم ! "يسارع الذهن الي أن الكاتب يتحدث عن القطار الذي هو عنوان للقصة،وسط ذلك الخداع المميز تبدأ عملية سرد مكثفة،تضعك بجانب هذا العجوز في الطريق وكأنك تراقبه على مدار أيام،وراؤه تمشي وتتلصص عليه وسط ذلك تعود سيرة القطار من جديد لتقتحم النص ولكن يبرر وجوده بتلك الجملة ( كان يرغب في أن تكبر دنياه .. تزداد من حوله بتفاصيلها و بشرها و ألوانها .) إذن فذلك القطار هو ربما ظله الذي كان يطمح إليه أو يطمح ليكون مثله،وسط تداخلات رائعة عن حياته الفعلية(أي شغلانه،العقد السادس،إنحناء الظهر، الشعر الأبيض) وكل ذلك يحاول أن يخفيه لينساه،كي ينكر وجوده ويعود إلى الظل الآخر أو ظل القطار.ومن خلال لغة سلسة وأسلوب شيق وعبارات رشيقة أتي بشكل واضح بعد ذلك عندما ينتظر تلك الأنثى التي لا تختلف عن طبقته أو حياته دون أن يصرح الكاتب بالعلاقة الخاصة التي تجمعهما ،ثم يتطرق الي الجزء المظلم من الحياه أو ذلك الجزء الذي لا يعبره القطار،فكرة الألم فهما يرميان بعض اللقيمات إلى إلى الحيوانات التي تم وصفها بالهزيلة وغالباالشخص الذي جرب الجوع لا يدع الغير جوعانا ،وهي لفته إنسانية تفضي بنا إلى النهاية المفاجئة وإن كانت لا تختلف كثيراعن ظل القطار ،وهي فكره الرحيل.....
    أشكرك على هذا النص المميز

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.